إن الحديث عن قصص الأنبياء هو حديث عن تاريخ البشرية نفسه، وعن سيرة صفوة الخلق وخيرتهم على الإطلاق. لقد أرسل الله الرسل تلو الرسل، وقد يصل عدد الأنبياء إلى 124 ألفًا، والرسل يزيدون على الثلاثمائة. ولم يقص الله عز وجل ما قص من هذه القصص في القرآن الكريم من أجل التسلية أو التلهي، بل جاءت هذه القصص لتكون عظة وعبرة لأولي الألباب.
عندما نتأمل قصص الأنبياء، نجد أنها تثير في النفس التأمل والتفكر في سنن الحياة وقواعد الاجتماع البشري عبر الزمان والمكان. إنها ترينا أن سنن الله الكونية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وأن هذه القصص هي طريق المصطفين الأخيار والأعلية الأبرار. مهمتنا، ونحن نقف على هذه التفاصيل، هي أن نقف عند حد العظة والعبرة لتطبيقها في حياتنا.
وتتنوع الكتب والمؤلفات التي تناولت هذا الموضوع، مثل كتاب "قصص الأنبياء" لابن كثير الذي حاول فيه الابتعاد عن خرافات الإسرائيليات، وكتب أخرى لعبد الحميد جودة السحار تتناول تفاصيل مثل قصة قابيل وهابيل وفداء إسماعيل وسفينة نوح، وكذلك كتب لمحمد متولي الشعراوي.
الدروس الخالدة في قصص الأنبياء الأوائل
آدم عليه السلام: بداية البشرية
يبدأ مسار قصص الأنبياء بآدم عليه السلام، أبو البشر. خلقه الله تعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته. لقد كان خلقه من طين، وهي مادة ترمز إلى الحلم والأناة والرزانة والخير، على النقيض من النار التي فيها الطيش والتدمير، ولهذا كان إبليس أحمق لئيمًا عندما فضل النار على الطين.
كان آدم مكرَّمًا، حيث علمه الله الأسماء كلها، وجعله خليفة لعماره الأرض. وقد نال آدم من الحفاوة والتكريم ما لم يحظ به أحد غيره. وقد خلقه الله على صورته وطوله ستون ذراعًا، وكل من يدخل الجنة سيكون على صورة آدم.
ورغم هذا التكريم، حدث الصراع الأول بين الحق والباطل. فقد حذر الله آدم وزوجته حواء من عداوة إبليس، الذي أقسم لهما كاذبًا أنه ناصح. وقع آدم في لحظة غفلة وشهوة، فأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها، فبدت لهما سوءاتهما. لكن آدم لم يكن معاندًا لربه كحال إبليس، بل ندم وتاب. إن هذا النزول إلى الأرض لم يكن عبثًا، بل كان أمرًا مقدورًا لساحة الصراع بين الإيمان والكفر.
لقد أدى آدم رسالته وترك أبناءه على ملة التوحيد، وظلوا على الصراط السوي عشرة قرون.
نوح عليه السلام: الصبر على الدعوة والطوفان العظيم
أرسل الله نبيه نوحًا عليه السلام بعدما ظهر الفساد في البر والبحر. وهو أول رسول إلى أهل الأرض، والاب الثاني للبشرية.
تميزت دعوة نوح بالصبر الطويل؛ فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. كانت دعوته واضحة، تركز على التوحيد وإفراد الله بالعبادة. لقد نوع نوح في الأساليب، داعيًا قومه ليلًا ونهارًا، وجهرًا وإسرارًا .
لكن قومه تمسكوا بالشرك وعبادة الأصنام التي ابتدعها إبليس لهم بعد موت رجال صالحين مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وكان الملا (كبار الناس) يحتقرون أتباع نوح من الفقراء والمساكين، ويصفونهم بأنهم "أراذلنا". بل وصل بهم الصلف أن طلبوا من نوح طرد المؤمنين.
لما استيأس نوح من إيمانهم ، أوحى إليه الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن. فدعا نوح ربه أن يطهر الأرض من الكافرين . فأمره الله بصنع سفينة نوح.
سخر قومه منه لأنه يصنع سفينة في صحراء. وعندما جاء أمر الله، تفجرت الأرض عيونًا وتفتحت أبواب السماء بماء منهمر. ركب نوح ومن آمن معه (قيل بضع عشرات)، وغرق الكافرون، حتى ارتفع الماء خمسة عشر ذراعًا فوق أعلى جبل. كانت النهاية عبرة عظيمة.
هود وصالح عليهما السلام: تحدي القوة والغرور
بعد الطوفان، جاء قوم عاد، وكانوا أول من عبد الأصنام بعد قوم نوح. أرسل الله إليهم هودًا عليه السلام.
كان قوم عاد يتميزون بـالقوة الجسدية (زادهم في الخلق بسطة)، والغرور. كانوا يبنون بيوتًا وقصورًا على الجبال ومصانع، وكانوا يبطشون بالناس بطش الجبارين. تحدوا نبيهم قائلين: "من أشد منا قوة؟".
دعاهم هود إلى التوحيد، وذكرهم بنعم الله عليهم. لكنهم اتهموه بالسفاهة والجنون، وزعموا أن آلهتهم أصابته بسوء. وعندما حانت النهاية، أرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا. فكانت نهاية سريعة، ولم يغن عنهم ما كانوا يمتعون.
أما قوم ثمود، فقد كانوا ينحتون الجبال بيوتًا فارهين، وأرسل إليهم صالحًا عليه السلام . وقد استكبروا عليه، وطلبوا منه آية ومعجزة، وهي أن يخرج لهم ناقة عظيمة من صخرة جلمود.
لما خرجت الناقة آمن البعض، وظل البعض على كفره . كانت الناقة آية، لها شرب يوم معلوم . لكن التسعة رهط المفسدون قاموا بقتلها. فتوعدهم صالح بالعذاب بعد ثلاثة أيام. وعندما اجتمعوا لقتل صالح ليلاً ، أرسل الله عليهم حجارة، ثم أخذتهم الصيحة والرجفة صباح الأحد . فكانوا عبرة لكل من يتجبر ويظلم.
التوحيد والتمكين في قصص أنبياء بني إسرائيل
قصة أيوب: منتهى الصبر والاعتراف بالضر
أيوب عليه السلام هو مضرب الأمثال في الصبر على البلاء. كان نبيًا وغنيًا، وابتلاه الله في ماله وأهله وولده وجسده. على الرغم من شدة بلائه، لم يشتكِ ربه.
في سياق دعائه، أظهر أيوب أدبًا رفيعًا، حيث نادى ربه قائلًا: "إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" . لم يقل "هدمني" أو "حطمني"، بل مجرد "مسني الضر".
لقد وجده الله صابرًا، نِعم العبد إنه أواب . فاستجاب الله له سريعًا، فكشف ما به من ضر ، وأمره أن يركض برجله ليغتسل بماء بارد وشراب. وأعاد الله إليه أهله ومثلهم معهم. وجعل الله قصته ذكرى للعابدين.
قصة يونس: النجاة من الظلمات والعودة إلى قومه
يونس بن متى عليه السلام، المعروف بـ"ذي النون" (صاحب الحوت). بُعث إلى أهل نينوى بالعراق. عندما ضاق يونس ذرعًا بتكذيب قومه وإعراضهم، خرج منهم مغاضبًا .
ركب سفينة مشحونة، ولما توسطت السفينة البحر، اشتدت الريح والأمواج. اقترع القوم لتخفيف الحمولة، فخرج سهم يونس، فأُلقي في البحر فالتقمه الحوت.
في تلك الظلمات المتراكمة، نادى ربه: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". فاستجاب الله له ونجاه من الغم. ونُبذ بالعراء وهو سقيم، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين. أرسله الله مرة أخرى إلى قومه، فآمنوا به كلهم (مئة ألف أو يزيدون) . وتعتبر قريتهم هي الوحيدة التي آمنت بأكملها. وقد أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر، ونهاه أن يكون كصاحب الحوت.
داود وسليمان عليهما السلام: جمع النبوة والملك
داود عليه السلام هو نبي ملك، آتاه الله النبوة والملك والحكمة وفصل الخطاب. كان داود يتميز بعبادته؛ فكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا . وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان أعبد الناس.
منحه الله الزبور، وكان صوته عذبًا شجيًا، حتى سخر الله له الجبال والطير يسبحن معه بالعشي والإشراق. كما ألان الله له الحديد فكان يصنع منه الدروع السابغات .
أما ابنه سليمان عليه السلام، فقد ورث عن أبيه داود النبوة والعلم والحكمة، ولم يرث المال، فالأنبياء لا يورثون. وقد دعا سليمان ربه قائلًا: "رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي".
استجاب الله لدعوته وسخر له الجنود من الجن والإنس والطير، فهم يوزعون (يُجمع أولهم على آخرهم). وعلمه الله منطق الطير، ومثال ذلك قصة النملة التي حذرت قومها من جيشه. وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. كما سخر له الشياطين يبنون له المحاريب والتماثيل ويغوصون له. كان ملك سليمان واسعًا وقويًا، لكنه كان نعم العبد الأواب.
عيسى ابن مريم: آية ومعجزة للناس
عيسى ابن مريم عليه السلام هو آخر أنبياء بني إسرائيل. ميلاده نفسه كان معجزة. فبعد أن اصطفاها الله وطهرها، جاءها الملك يبشرها بكلمة من الله. وعندما سألت: "أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟"، جاءها الجواب: "كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون".
عندما أتت مريم بقومها تحمل ولدها، اتهموها بالفاحشة. فأشارت إلى الطفل ليتكلم. فكانت أول كلمة نطق بها المسيح وهو في المهد: "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا".
أُيد عيسى بمعجزات خارقة تتوافق مع ميلاده، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويشفي الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. كما كان يخبرهم بالغيب (ما يدخرون في بيوتهم).
عندما شعر عيسى بكفر بني إسرائيل، سأل: "من أنصاري إلى الله؟" فأجاب الحواريون: "نحن أنصار الله". وفي النهاية، تآمر عليه اليهود ليقتلوه. لكن الله رفعه إليه، وألقى شبهه على رجل آخر. وهو سينزل آخر الزمان ليكسر الصليب ويقتل الخنزير ويحكم بشريعة الإسلام.
أسئلة وأجوبة شائعة (Q&A)
س1: ما هو الهدف الأساسي من ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم؟
ج1: الهدف ليس التسلية أو التلهي، بل جاءت هذه القصص لتكون عظة وعبرة لأولي الألباب، وتثير في النفس التأمل في سنن الحياة وقواعد الاجتماع البشري.
س2: كم كانت الفترة الزمنية بين آدم ونوح عليهما السلام؟
ج2: ظل الناس على ملة التوحيد بعد آدم عليه السلام لمدة عشرة قرون كاملة.
س3: ما هي النعم الخاصة التي سخرها الله لنبيه سليمان عليه السلام؟
ج3: سخر الله لسليمان الريح تجري بأمره، والجنود من الجن والإنس والطير، كما علمه منطق الطير، وأعطاه القدرة على عقاب الجن.
س4: بماذا اشتهر النبي أيوب عليه السلام، وما كان دعاؤه عندما مسه الضر؟
ج4: اشتهر النبي أيوب بـالصبر العظيم. وكان دعاؤه الخاشع: "أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
إن قصص الأنبياء هي سجل خالد للتجربة البشرية مع قضايا الإيمان والتوحيد والصبر والابتلاء. من خلال هذه السير المباركة لصفوة الخلق، نرى كيف انتصر الحق على الباطل، وكيف كانت العاقبة للمتقين. إن هذه القصص تقدم لنا نماذج حية للاقتداء في الثبات على المبدأ، والتوكل على الله، والإصرار على الدعوة، مهما اشتدت المحن وزاد عناد المكذبين. إنها دروس عميقة تدعونا للتفكر والعمل بالشكر، والابتعاد عن الغرور والفساد.