لقد سمعنا جميعًا النصيحة التقليدية التي تتلخص في "ادرس بجد لتحصل على وظيفة جيدة!". هذه هي العقلية التي طالما حكمت حياتنا وتطلعاتنا. ولكن ماذا لو قلنا لك أن هناك فكرة تتحدى هذا المسار، فكرة أثرت في الملايين حول العالم، وإن كانت محفوفة بالجدل؟
نحن نتحدث عن كتاب "الأب الغني والأب الفقير" (Rich Dad, Poor Dad) للمؤلف روبرت كيوساكي. هذا الكتاب، الذي نشر لأول مرة في نهاية التسعينيات، تجاوزت مبيعاته 40 مليون نسخة عالميًا، وترجم إلى أكثر من 50 لغة. إنه ليس مجرد كتاب مساعدة ذاتية، بل هو عمل يهدف إلى تعزيز الثقافة المالية، مؤسسًا العديد من المفاهيم الحديثة حول كيفية جني المال.
من خلال أسلوبه القصصي البسيط والعميق في آن واحد، يقارن كيوساكي بين شخصيتين محوريتين في حياته: والده البيولوجي المتعلم أكاديميًا (الأب الفقير)، ووالد صديقه الذي لم يكمل تعليمه لكنه أصبح ثريًا (الأب الغني). على الرغم من تشديد كلا الأبوين على أهمية التعليم، إلا أن الأول أصر على التعليم الأكاديمي، بينما ركز الآخر على تعاليم الحياة بالإضافة إلى الأكاديمي.
في هذه المقالة سنغوص في أعماق الدروس التي يقدمها كتاب الأب الغني والأب الفقير، ونستعرض أهم مفاهيمه، ولا نغفل النظر إلى الانتقادات الجادة التي وُجهت إليه. هدفنا هو أن نقدم لك نظرة شاملة ومتوازنة، لتعينك على اتخاذ قراراتك المالية بخطى واعية ومدروسة.
جوهر الفكرة: عقلية الثراء مقابل عقلية الفقر
الرسالة الأولى التي يقدمها الكتاب بوضوح هي: "الثراء فكر، والفقر فكر". يكمن الاختلاف بين الأثرياء والفقراء في طريقة التفكير والنظرة للمال.
أحد الاقتباسات التي تُلخص هذه الفكرة هو: "هناك فارق بين كون المرء فقيرًا وكونه مفلسًا؛ فالإفلاس أمر مؤقت أما الفقر فأبدي". فالإفلاس يمكن تجاوزه، أما الفقر فهو أسلوب تفكير يحكم على صاحبه بمعاناة دائمة.
الدرس الأول: العمل من أجل التعلم لا المال
لعل أهم درس قدمه الأب الغني لروبرت كيوساكي هو أن الأثرياء لا يعملون لجني المال، بل المال هو الذي يعمل لأجلهم. على النقيض، فإن الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة يعملون من أجل المال.
يدعو كيوساكي إلى تغيير مسار تفكيرك الوظيفي. بدلًا من البحث عن أعلى راتب ممكن، يجب أن تعمل من أجل اكتساب المهارات الحياتية أولاً، فهي التي ستقودك إلى الحرية المالية. يجب أن يكون هدف العمل هو التعلم والتطور. هذه المهارات تشمل الاتصال الفعال، إدارة الأنظمة والأشخاص، وعمليات التفاوض، وكذلك مهارات البيع والتسويق.
يروي كيوساكي كيف أن البعض يرفضون تعلم المهارات التي تقع خارج نطاق تخصصهم الأكاديمي (مثل المبيعات). إلا أن الأغنياء لا يستحقرون أي علم يمكن أن يخرجهم من دائرة الاختصاص الضيقة ويجعلهم قادرين على الخوض في الكثير من النجاحات.
تجاوز الخوف والجشع: سيطرة العواطف على القرار المالي
تتحكم غريزتان رئيسيتان في حياة الناس دائمًا: الخوف والجشع.
- الخوف: يدفعك الخوف من الفقر إلى التمسك بالوظيفة ورفض الفرص والمخاطرة.
- الجشع (الرغبة): هي الرغبة في امتلاك أفضل الأشياء وألمعها، والخوف من فقدان تلك الأشياء حال امتلاكها.
يشرح كيوساكي أن الفرق بين الأغنياء والفقراء يكمن في ردة فعلهم تجاه هاتين العاطفتين. الفقراء يستجيبون بالركض وراء الوظائف، بينما الأغنياء يقاتلون ويغالبون الحياة. إنهم يدرّبون عقولهم على التفكير الهادئ والواقعي، والتوازن بين الحذر والمخاطرة الذكية.
كما يشجع الكتاب على طرح الأسئلة التي تحفز العقل على العمل بدلاً من التوقف. فمقولة "ليس بوسعي القيام بذلك" تدفع عقلك إلى التوقف تلقائيًا، أما السؤال: "كيف يمكنني القيام بذلك؟" فأنت تدفع عقلك إلى العمل.
المفاهيم الأساسية للثقافة المالية في "الأب الغني والأب الفقير"
يؤكد كيوساكي على أن التثقيف المالي أهم بكثير من الدرجات الأكاديمية. إن المال بدون ذكاء سيذهب عاجلًا، ولهذا السبب نجد الكثير ممن يربحون الملايين، تختفي من بين أيديهم في أيام قليلة.
الأصول والخصوم: معادلة التدفق النقدي
يعتبر مفهوم الأصول والخصوم من أقوى أدوات التغيير المالي التي يقدمها الكتاب. يُعرّف كيوساكي المفهومين بفلسفة بسيطة:
- الأصول: هي الأشياء التي تضع المال في جيبك وتزداد قيمتها بمرور الوقت (مثل العقارات المؤجرة، الأسهم، والمشاريع التجارية التي لا تتطلب وجودك الدائم).
- الخصوم (الالتزامات): هي الأمور التي تُخرج المال من جيبك وتقل قيمتها بمرور الوقت (مثل القروض، السيارات، والمشتريات الاستهلاكية).
المشكلة الكبرى هي أن الطبقة المتوسطة غالبًا ما تشتري التزامات معتقدة أنها أصول. على سبيل المثال، قد يُعتبر منزل العائلة الكبير خصمًا إذا كان يستهلك المال شهريًا ولا يدر دخلًا. الأثرياء يستخدمون دخلهم لشراء الأصول التي تُدر دخلًا أكبر، ويعملون على تقليل إنفاقهم على المصاريف وشراء الخصوم.
فهم النموذج الرباعي للكسب (E-S-B-I)
لتوضيح طرق كسب المال، وضع روبرت كيوساكي نموذجًا يسمى النموذج الرباعي (Cashflow Quadrant). يشرح هذا النموذج الطرق الأربعة الرئيسية لكسب الفلوس:
- E (Employee/الموظفون): هم الذين يشتغلون في وظيفة، سواء في قطاع خاص أو حكومي، ويبيعون وقتهم مقابل الراتب. معظم الناس يقعون في هذا القسم.
- S (Self-Employed/العاملون لحسابهم الخاص): هم المديرون لأنفسهم (كالأطباء الذين يفتحون عيادات أو المصممين). هذا النوع أيضًا يدفع وقته مقابل الفلوس.
- B (Business Owner/أصحاب المشاريع): يملكون مشروعًا تجاريًا لكنهم لا يعملون فيه بالضرورة. هم يؤسسون نظام عمل يعتمد على أشخاص أكفاء يديرون الشغل، وبالتالي يصبح البزنس يشتغل بدون الحاجة لوجودهم، فيدر لهم الدخل الساكن (Passive Income).
- I (Investor/المستثمرون): هم الذين يضعون فلوسهم في فرص استثمارية، والفلوس هي التي تشتغل وتجلب لهم المزيد من الفلوس.
النوعان على اليسار (E و S) دافعهم عادة هو السعي للأمن الوظيفي، وغالبًا ما يحتاجون إلى مجال معرفي محدد (تخصص). أما النوعان على اليمين (B و I) فدافعهم هو السعي لتحقيق الحرية المالية.
يوضح كيوساكي أن الثروات الأكبر تتركز لدى الفئة التي على اليمين (B و I)، حيث يعتمدون على مبدأ المضاعفة. ويوضح أنه ليس بالضرورة أن تترك وظيفتك إذا كنت مرتاحًا فيها، ولكن إذا كنت تسعى للحرية المالية، فيجب أن تبدأ في تأسيس قنوات جديدة للكسب من النوع الذي على الجانب الأيمن. وهذا يتطلب وقتًا وتعلمًا للكثير من الأشياء.
كيف يجعل الأثرياء المال يعمل لأجلهم؟
الأثرياء لا ينتظرون الفرص أن تأتيهم، بل يعملون على ابتكارها، ويرون أن الفرص "تتاح ثم تذهب". إنهم يتخذون المخاطرات المحسوبة، ويديرون أموالهم بذكاء مالي عالي.
قوة الشركات والذكاء الضريبي
يناقش كيوساكي أن المعرفة بالضرائب والمحاسبة الضريبية هي سبب ازدياد الأغنياء غنىً. عندما فُرِضت ضريبة الدخل في بعض الدول، عمل الأثرياء على توظيف أكفأ المحاسبين لإيجاد الثغرات القانونية.
باستخدام الشركات، يضع الأثرياء أموالهم لحماية أصولهم. ففي الغالب، يكسبون وينفقون (على استثماراتهم وأصولهم) ومن ثم يخضعون للضريبة على المبلغ المتبقي. بينما الموظف (E) أو صاحب العمل الحر (S) يُخصم منه الضرائب أولاً، ثم ينفق المتبقي. إن امتلاك الذكاء المالي يساعدك على شق طريقك نحو المزيد من الثراء دون الغوص في الرمال المتحركة لقوانين الضرائب.
ابتكار الفرص والمخاطرة المحسوبة
الأثرياء يبتكرون سبل الحصول على المال. يرى كيوساكي أن وظيفتك الأساسية هي معرفة "كسب المال".
ويقدم مثالًا صادمًا لتوضيح فكرة التركيز على "العمل الخاص" (الأصول) وليس "المهنة": شركة ماكدونالدز ليست شركة وجبات سريعة، بل هي شركة تعمل في مجال العقارات، تراكم العقارات المُدرة للدخل وتبيع الهامبرغر بامتياز. عملها هو العقارات، ومهنتها هي المطاعم.
كما يشدد الكتاب على تحمل المخاطر والجُرأة. فالأثرياء يخاطرون لأنهم يرون أن الفرص تأتي وتذهب. ويوصي بأن تفكر بنفسك أولًا وتضع نفسك في المقام الأول، فبدلاً من دفع الفواتير والادخار مما تبقى، عليك أن تقلب المعادلة وتدخر وتستثمر أولاً.
نقاش صريح: انتقادات وتحديات كتاب "الأب الغني والأب الفقير"
على الرغم من الانتشار الهائل للكتاب، إلا أنه لاقى نقدًا عنيفًا. إن قراءة "الأب الغني والأب الفقير" يجب أن تتم بعين ناقدة، خاصة أن بعض النصائح فيه وُصفت بأنها "نظرية" وخاطئة.
حكايات مثيرة للجدل والواقعية العربية
أحد أبرز الانتقادات الموجهة لكيوساكي هي التشكيك في مصداقية القصة الأساسية للكتاب. فقد برر كيوساكي عدم وجود الأب الغني فعليًا لاحقًا بأنه مثل "هاري بوتر"، ليس شرطًا أن يكون حقيقيًا حتى يكون مؤثرًا. كما أن سجله المالي تعرض لعثرة عندما أعلنت شركته الإفلاس في عام 2012، وهو ما اعتبره البعض علامة تحذير.
- السخرية من التعليم والوظيفة: يرى بعض النقاد أن الكتاب متطرف في تحقير الوظيفة والتعليم الأكاديمي، ويصوّر اختيار طريق الوظيفة كفشل أو عبودية. هذه الفكرة ضعيفة، إذ أن ليس كل الناس يحبون فكرة العمل الحر، وحتى الشركات التي يؤسسها "رجل الأعمال" تحتاج إلى موظفين.
- الواقعية العربية: يرى العديد من المختصين أن الكتاب ليس موجهًا أصلاً للواقع الاقتصادي العربي، وأن نصائحه "أمريكية للغاية". فالتركيبة الاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية مختلفة تمامًا عن أمريكا. فمن الصعب تعميم نصيحة ترك التعليم والانطلاق لجمع المال في أسواق تعاني من البطالة وتضاؤل فرص العمل المتاحة.
- تأثير الكتاب على المراهقين: كان لكتاب الأب الغني والأب الفقير تأثيرات غير محسوبة، مثل قصة مراهقين أردنيين تركا المدرسة والمنزل بحثًا عن الثروة بناءً على رسالة الكتاب القائلة: "نجعل المال هو الذي يعمل من أجلنا وليس نحن مَن نعمل من أجل المال مثل عقليّة الموظف التي تصدرها المدارس". لقد رأيا أن التعليم الذي يتلقيانه غير مفيد وسيحولهما إلى "مجرد موظفين فقيرين". هذا يوضح كيف أن التفسيرات المتطرفة لرسالة الكتاب يمكن أن تكون خطيرة.
في الخلاصة، لا يمكن القول إن كتاب الأب الغني والأب الفقير غير مفيد كليًا. بل إنه يحتوي بالفعل على العديد من الخلفيات والقواعد المالية المفيدة، مثل أهمية الاستثمار في الأصول وتقليل الإنفاق على الخصوم. إنه كتاب تحفيزي يرفع الوعي، لكنه ليس دليل عملي شامل. يجب أن يتم التعامل معه بحذر، وأخذ الجوانب القيمية والدينية بعين الاعتبار.
أسئلة وأجوبة شائعة حول الأب الغني والأب الفقير (Q&A)
س: ما هو المفهوم الأساسي الذي يدور حوله كتاب "الأب الغني والأب الفقير"؟
ج: المفهوم المحوري هو أن الأثرياء يجعلون المال يعمل لأجلهم، بينما يعمل الفقراء والطبقة المتوسطة من أجل المال. ويسلط الكتاب الضوء على أهمية التثقيف المالي وفهم الفرق بين الأصول (ما يضع المال في جيبك) والخصوم (ما يُخرج المال من جيبك).
س: من هو مؤلف كتاب "الأب الغني والأب الفقير"؟
ج: مؤلف الكتاب هو روبرت تي كيوساكي (Robert T. Kiyosaki)، وهو رجل أعمال أمريكي خبير مختص في التنمية البشرية والاستثمار. وُلِد في هاواي عام 1947، واكتسب شهرته الواسعة بفضل هذا الكتاب الذي يُعد من أكثر الكتب تأثيرًا وانتشارًا في مجال التثقيف المالي.
س: هل يجب عليّ ترك وظيفتي أو دراستي لتطبيق نصائح الكتاب؟
ج: لا، ليس بالضرورة. يشير كيوساكي إلى أن مفتاح الاستقلال المالي هو الحصول على أموال تجني المزيد من المال. إذا كنت مرتاحًا في وظيفتك، لا تقلل من شأنك. لكن إذا كنت تسعى للحرية، فيجب عليك أن تؤسس قنوات دخل جديدة (الأصول) من النوع الذي يقع في الجانب الأيمن من النموذج الرباعي (B أو I). ينصح الكتاب بعدم التسرع في المخاطرة قبل أن تكون مستعدًا.
س: ما هي الطرق الأربعة لكسب المال التي قدمها كيوساكي؟
ج: قدم كيوساكي النموذج الرباعي (E-S-B-I):
- E (Employee/الموظف).
- S (Self-Employed/العامل لحسابه الخاص).
- B (Business Owner/صاحب المشروع).
- I (Investor/المستثمر). الانتقال من الجانب الأيسر (E و S) الذي يسعى للأمان إلى الجانب الأيمن (B و I) الذي يسعى للحرية المالية هو الهدف.
س: ما هي أبرز الانتقادات الموجهة للكتاب؟
ج: تشمل الانتقادات الشك في وجود شخصية "الأب الغني"، ووصف البعض لمحتواه بأنه "هراء" أو مبالغ فيه. كما يُنتقد الكتاب لتركيزه المتطرف على تحقير الوظيفة والتعليم الأكاديمي، وعدم ملاءمته للواقع الاقتصادي غير الأمريكي، بالإضافة إلى تعرض شركة المؤلف نفسه للإفلاس في عام 2012.
يقدم كتاب الأب الغني والأب الفقير دروسًا قيمة تتعلق بتغيير عقلية الفقر إلى عقلية الثراء، مشددًا على أن الفقر أبدي بينما الإفلاس مؤقت. إنه يدعو إلى تبني الثقافة المالية، والعمل من أجل اكتساب المهارات، وتحمل المخاطر المحسوبة. أهم ما قدمه الكتاب هو معادلة الأصول والخصوم، والتعريف بالنموذج الرباعي للكسب (E-S-B-I) الذي يحث على بناء مصادر الدخل الساكن عن طريق الاستثمار والملكية الخاصة. على الرغم من أهميته في إيقاظ الوعي المالي، يجب قراءته بعين ناقدة ومواءمة نصائحه مع الواقع الاقتصادي والثقافي الخاص بنا. الثراء الحقيقي يحتاج إلى التعلم والصبر والاستثمار في الأصول التي تجعل المال يعمل لأجلك.