كيف يحفظ غض البصر قلبك وحياتك سهم نجاة أم سهام هلاك؟

نحن نعيش في عالم يزداد فيه الانفتاح وتتعدد فيه المشاهدات، مما يجعل الحفاظ على نقاء القلب أمراً شاقاً يتطلب منا جهاداً مستمراً. من بين الآداب الشرعية العظيمة التي جاء بها ديننا الحنيف، يقف مبدأ غض البصر كحارس أمين على القلب والروح. إنه ليس قيداً أو حرماناً، بل هو في حقيقته حماية إلهية ووصية نبوية، تهدف إلى تحقيق الطهارة (ذلك أزكى لهم) والسعادة في الدنيا والآخرة.

هذا المقال يأتيكم بقلب يملؤه التعاطف، وعقل يستند إلى الأدلة الشرعية المستمدة من مصادر موثوقة، ليذكرنا جميعاً بأهمية هذا الواجب وكيف يمكن لالتزام بسيط كهذا أن يُحدث فرقاً جذرياً في صفاء حياتنا الروحية والنفسية.

كيف يحفظ غض البصر قلبك وحياتك سهم نجاة أم سهام هلاك؟


غض البصر: الباب الأكبر إلى سلامة القلب ونقائه

لقد اتفق العلماء وأرباب السلوك على أن الذنوب والمعاصي تضر الإنسان لا محالة، وتترك آثارها وعقوباتها على القلب والدين والعقل والدنيا والآخرة. وفي طليعة هذه المعاصي التي تؤدي إلى الهلاك، يأتي إطلاق البصر.

التعريف الشرعي والمكانة

غض البصر يعني أن يغمض المسلم بصره عما حرم عليه النظر إليه، وألا ينظر إلا لما هو مباح له. وقد وصف الإمام القرطبي، تبعاً لابن عطية، البصر بأنه "الباب الأكبر إلى القلب"، وهو أعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك، كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه. ولهذا، فإن غض البصر واجب عن جميع المحرمات وكل ما يُخشى منه الفتنة.

الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية

أمر الله تعالى بغض البصر أمراً مباشراً وصريحاً في القرآن الكريم، مُقدماً إياه على الأمر بـ حفظ الفروج:

  • من الكتاب: قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ [النور: 30-31].

    • إن تقديم الأمر بغض البصر على حفظ الفرج في الآية، يدل على أن النظرة هي أساس الحوادث ومفتاحها.
  • من السنة النبوية: أكدت السنة النبوية الشريفة هذا الواجب وجعلته من حقوق المسلم:

    • عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، جعل النبي صلى الله عليه وسلم غض البصر أول حقوق الطريق، حيث قال: ((إيَّاكُم والجُلوسَ على الطُّرُقاتِ... فأعطُوا الطَّريقَ حَقَّها، قالوا: وما حَقُّ الطَّريقِ؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وكفُّ الأذى، ورَدُّ السَّلامِ، وأمرٌ بالمَعروفِ، ونَهيٌ عَنِ المُنكَرِ)). وهذا يدل على أن الجلوس في الأماكن التي تتيح إطلاق البصر هو ذريعة إلى تسليط البصر، ولذلك نُهي عنه.
    • كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن زنا العينين هو النظر، وزنا اللسان هو النطق، وأن الفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

المرأة كذلك مأمورة بغض بصرها

لا يقتصر الأمر على الرجال فحسب، بل هو واجب على المؤمنات أيضاً، كما ورد في الآية الكريمة: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ [النور: 31]. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صفوف النساء أثناء الصلاة: "وخير صفوف النساء المؤخر، وشرها المقدم، يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن".

عندما يقع البصر فجأة: التعامل مع نظر الفجأة

قد يسير الإنسان أو يكون في مكان عام، فيقع بصره على محرم بغير قصد منه، وهذا ما يسمى بـ نظر الفجأة.

  • الحكم والواجب: لا إثم على العبد في أول هذا النظر الذي وقع من غير قصد، لكن يجب عليه أن يصرف بصره في الحال.
  • الدليل: عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ((سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن نَظَرِ الفُجاءةِ فأمَرَني أن أصرِفَ بَصَري)).
  • العلاج والتحذير: إن استدامة النظر بعد نظر الفجأة هو المحذور الذي يوقع في الإثم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((يا عليُّ، لا تُتبِعِ النَّظرةَ النَّظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى وليسَت لك الآخِرةُ)). النظرة الأولى التي وقعت فجأة لك، لأنك لم تقصدها، أما الثانية فليست لك، ويجب عليك صرف البصر وغضه.

آفات إطلاق البصر: الطريق إلى هلاك القلب والدين

إن العاقل يحذر أشد الحذر من إطلاق البصر. لقد شبه ابن القيم النظرة بأنها "سَهمٌ مَسمومٌ مِن سِهامِ إبليسَ". ومن أطلق لحظاته، دامت حسراته.

إنّ إطلاق البصر هو أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان. فهذه المعصية ليست معصية معزولة، بل هي ذريعة تقود إلى الفاحشة.

سلسلة الهلاك الخفي

يوضح ابن القيم كيف أن النظرة غير المحروسة تفتح طريقاً للشيطان (مَدخَلَه مِنَ القَلبِ)، وتبدأ بالآفات التالية:

  1. النظرة تولِّدُ خَطرةً: النظرة الأولى تُنتج خاطراً عابراً.
  2. الخَطرةُ تولِّدُ فِكرةً: هذا الخاطر يتحول إلى فكرة يُشغل بها الذهن.
  3. الفِكرةُ تولِّدُ شَهوةً: التفكير المستمر يوقد الشهوة ويشعلها.
  4. الشَّهوةُ تولِّدُ إرادةً: تتحول الشهوة إلى رغبة قوية (إرادة).
  5. الإرادةُ تصيرُ عَزيمةً جازِمةً: ثم تشتد الإرادة وتتحول إلى عزم قاطع.
  6. فيَقَعُ الفِعلُ ولا بُدَّ: إذا لم يمنع مانع خارجي أو إيماني، يقع الفعل المحرم.

لهذا قيل: "الصبرُ على غَضِّ البَصَرِ أيسَرُ مِنَ الصَّبرِ على ألمِ ما بَعدَه".

المعاناة النفسية والقلبية

إن إطلاق البصر يورث الحَسَراتِ والزَّفَراتِ والحُرُقاتِ. فالعبد يرى ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب. كما أن النظرة قد توقع في العشق (العِشقُ)، وهو علاقة يَتَعَذَّبُ بها الإنسان. وإن قويت هذه العلاقة حتى صارت غراماً وعشقاً، ازداد العذاب الأليم.

وقد شبهت هذه الآفة ببراعة في الشعر:

كُلُّ الحَوادِثِ مَبداها مِنَ النَّظَرِ

ومُعظَمُ النَّارِ مِن مُستَصغَرِ الشَّرَرِ

كَم نَظرةٍ بَلغَت في قَلبِ صاحِبِها

كمَبلَغِ السَّهمِ بَينَ القَوسِ والوَتَرِ

إن النظرة تجرح القلب جرحاً يتبعه جرح على جرح، ورغم ألم الجراحة، قد يستدعي العبد تكرارها! وهذا من أعجب الآفات. وقد قيل: "إنَّ حَبسَ اللَّحَظاتِ أيسَرُ مِن دَوامِ الحَسَراتِ".

فساد القلب والظلمة

بين العين والقلب منفذ وطريق يوجب أن يصلح أحدهما بصلاح الآخر، ويفسد بفساده. إذا فسد النظر، فسد القلب، وإذا خربت العين وفسدت، خَرِبَ القَلبُ وفسَدَ، وصارَ كالمَزبَلةِ، أي مكاناً لا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والأنس به.

كما أن إطلاق البصر يُلبس القلب ظُلمةً، ويورث الوَحشة بين العبد وربه. وإطلاق النظر يُفرِّقُ القلب ويُشتِّتُه، ويُبعده عن الله.

الثمرات العظيمة لغض البصر و طهارة القلب

إن جزاء غض البصر عظيم، فهو يعود على العبد بالمنافع الروحية والنفسية، وهو من أعظم أسباب النجاة والسعادة. وقد ذكر ابن القيم وغيره من العلماء فوائد عديدة لغض البصر.

1. الامتثال والطاعة وغاية السعادة

إن غض البصر هو أولاً وقبل كل شيء امتثالٌ لأمرِ اللهِ. وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر الله؛ فما شقي من شقي إلا بتضييع أوامره. وهذا الامتثال يمنع من وصول أثر السهم المسموم (سهم إبليس) إلى القلب.

2. حلاوة الإيمان وأنس القلب

إن من غض بصره، أوجده الله حلاوة يجدها في قلبه. إن غض البصر يورث القلب أُنسًا بالله وجَمْعِيَّةً عليه. حيث إن ترك إطلاق البصر يعوض العبد بـ سرور وفرحة وانشراح أعظم من لذة الذنب، فلذة العفة أعظم وأبقى.

3. نور البصيرة والفراسة الصادقة

يكسب غض البصر القلب نورًا، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمة. وقد ذكر الله سبحانه آية النور عقب الأمر بغض البصر (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ... اللَّهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِه كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).

إذا استنار القلب، أقبلت وفود الخيرات إليه. ومن أهم ثمرات هذا النور: الفِراسة الصادقة، التي يُمَيِّزُ بها بين الحق والباطل، والصادق والكاذب. ومن ترك شيئاً لله، عوَّضه الله خيراً منه، فيطلق نور بصيرته عوضاً عن حبس بصره لله.

4. قوة القلب والشجاعة

يورث غض البصر القلب ثباتاً وشجاعة وقوة. فيجمع الله له بين سلطان النصرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة. على النقيض من ذلك، تجد في المتبع لهواه ذلاً ووُضاعة ومَهانة وخِسَّة. وقد جعل الله العز قرين طاعته، والذل قرين معصيته.

5. إصلاح شؤون العبد وتزكية النفس

غض البصر يخلص القلب من ذكر الشهوة ومن رقدة الغفلة. إنه يفرغ القلب للتفكير في مصالحه والاشتغال بها، بينما إطلاق البصر ينسيه ذلك ويحول بينه وبينه، فيتفرق عليه أمره ويقع في اتباع هواه والغفلة عن ذكر ربه. فالتستر والتحجب (المأمور به للمرأة) وغض البصر (المأمور به للرجل) أطهر لقلوب الجميع، ودل ذلك على أن عدم الالتزام بهذه الأوامر سبب لنجاسة القلب ومرضه.

كيف نساعد أنفسنا على غض البصر؟

إن جهاد النفس في غض البصر يتطلب استعانة بالله واتخاذ إجراءات عملية:

1. العلم بحال الناظر والمنظور إليه

مما يُستعان به على غض البصر، أن تعلم أن "نَظَرَ النَّاظِرِ إليك أسبَقُ مِن نَظَرِك إلى المَنظورِ إليه". أي، تذكر دائماً أن الله يراك قبل أن ترى أنت، ونظره إليك شامل ومحيط.

2. الحذر من أماكن الفتنة

يجب اجتناب مجالس الصُّعُدات (الطرق والأفنية) التي لا يتم فيها إعطاء الطريق حقه. ويلتحق بذلك الجلوس في الحوانيت وفي الشبابيك المطلة على المارة، حيث تقع الذريعة إلى تسليط البصر.

3. التفكير في عواقب النظر والعيوب

إذا ابتُلي الشخص بـ العشق أو تعلق قلبه بشيء محرم، فليتفكَّرْ في عيوب ذلك الشيء. كما يجب تذكر أن إطلاق البصر يضعف العقل ويزيده طيشاً وعدم ملاحظة للعواقب.

4. الواجب المشترك على الرجال والنساء

على الرجال والنساء أن يحرصوا جميعاً على طهارة القلوب وسلامتها. وإذا كان الشاب يعاني من كثرة الملابس الجذابة التي تظهر مفاتن الفتيات، فعليه أن يجاهد نفسه في غض البصر.

وفي المقابل، فإن الواجب على الفتيات أن يتقين الله ويلتزمن بالملابس الساترة والحجاب الذي يستر جميع البدن والرأس والوجه، حتى لا يفتنَّ الناس ولا يتعلق بهن الشباب، مما يسبب حادثة الفاحشة. فالتستر والتحجب أطهر لقلوب الجميع.

أسئلة وأجوبة شائعة حول غض البصر

س 1: ما هو الدليل الشرعي الذي يؤكد وجوب غض البصر؟

ج: الدليل الأساسي هو قول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30]. هذا الأمر موجه للمؤمنين والمؤمنات، ويؤكد العلماء أنه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة منه. كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم من حق الطريق.

س 2: ما الفرق بين النظرة الأولى والثانية (نظرة الفجأة)؟

ج: نظر الفجأة هو أن يقع بصر المرء على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في ذلك. لكن الواجب عليه أن يصرف بصره في الحال. أما النظرة الثانية (الآخِرة) التي تأتي بعد الأولى، فهي محرمة إذا كانت باختيار العبد وإرادته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((فإنَّ لك الأولى وليسَت لك الآخِرةُ)).

س 3: كيف يؤثر إطلاق البصر على القلب والدين؟

ج: إطلاق البصر يضعف القلب ويحزنه، ويؤدي إلى ظلام القلب، فيصبح القلب كالمزبلة لا يصلح لسكنى معرفة الله. كما أنه أصل عامة الحوادث، حيث يبدأ بنظرة ثم خطرة ثم فكرة ثم شهوة ثم عزم يؤدي إلى الفعل المحرم. وقد يورث العشق والغرام، الذي يسبب عذاباً أليماً يهلك البدن والدين.

س 4: ما هي أهم ثمرات غض البصر في الحياة الروحية؟

ج: لغض البصر ثمرات عظيمة، منها: امتثال أمر الله، ويورث القلب أنساً بالله وجمعية عليه، ويبعد عنه الوحشة. كما أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً، ومن ثمراته الفراسة الصادقة التي يميز بها العبد بين الحق والباطل. ومن أهمها أيضاً: أن الله يوجِد في قلب العبد حلاوة الإيمان يجدها في قلبه.

س 5: ما دور حفظ الفروج في سياق غض البصر؟

ج: الأمر بـ غض البصر مقترن بالأمر بـ حفظ الفروج في القرآن الكريم. إن غض البصر يعتبر وسيلة وذريعة لحفظ الفرج، لأن النظرة هي بداية طريق الشهوة والفاحشة. فإذا سد العبد باب النظر، سد على نفسه مدخل الشيطان، وبالتالي سلم من الوقوع في الفاحشة.

إن غض البصر هو من أهم الواجبات الشرعية والآداب التي أمر بها الله ورسوله، للرجال والنساء على حد سواء، وهو جزء أصيل من حق الطريق. إنه صمام أمان لـ طهارة القلب، إذ أن العين هي الباب الأكبر الذي تتسرب منه آفات الشهوات إلى القلب. وبينما يؤدي إطلاق البصر إلى شتات القلب، الظلمة، والحسرات المؤلمة، فإن غض البصر يورث العبد حلاوة الإيمان، ويمنح قلبه نوراً وفراسة صادقة. فجهاد النفس في هذا الباب هو استثمار في سعادتك ونجاتك في الدنيا والآخرة.

تعليقات