لطالما كان حفظ القران الكريم غايةً وهدفًا يسعى إليه المسلمون عبر العصور، فهو ليس مجرد حفظ لكلمات، بل استيعاب لنور وهداية ومنهاج حياة. ولكن، كما هو الحال في أي علم شريف، فإن الوصول إلى الإتقان يتطلب منهجية ومنطلقًا صحيحًا. يرى أهل العلم أن الطريق إلى حفظ هذا الكتاب العظيم يمر بمراحل تدرجية، تبدأ بتأسيس القاعدة المتينة قبل الانطلاق نحو البنيان. إن السر في تحقيق الحفظ دون الوقوع في المشقة أو الخطأ يكمن في فهم الأولويات التي وضعها العلماء، والتي تُركز في المقام الأول على الإتقان قبل الكم، وعلى الضبط قبل الشروع في الحفظ.
لماذا ضبط القراءة يسبق حفظ القران الكريم؟
قد يتساءل الكثيرون: أليس الأهم أن أبدأ بالحفظ مباشرة لأقطع شوطًا؟
يؤكد أهل العلم أن أولى ما يُبدأ به في التعامل مع كلام الله جل وعلا، القرآن العزيز، هو ضبط القراءة. هذا الترتيب ليس اعتباطيًا، بل هو منهج مأخوذ من فقه الأولويات في طلب العلم. بل إن هذا التدرج في البداءة بـ "صغائر العلم قبل كباره" هو مسألة معروفة بين أهل العلم في عدد من الفنون.
إن أهمية ضبط القراءة تكمن في تجنب الوقوع في الخطأ الذي يصعب تصحيحه لاحقًا. فقد يُقبل المرء على حفظ القران الكريم وهو لم يضبط قراءته بعد، فيصعب عليه الأمر، فيحفظ حفظًا خاطئًا، ثم بعد ذلك قد لا يستطيع لسانه أن يقوم ما حفظه على وجه الخطأ، فتثبت اللكنة والتحريف في ذهنه.
ولبيان مدى أولوية ضبط القراءة، يُروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه "كان يضرب أبناءه على ترك إعراب القرآن، ولا يضربهم على ترك حفظه". هذا يدل بوضوح على أن ضبط القرآن، والنطق الصحيح له، هو الأجدر بالبداءة قبل الشروع في الحفظ.
ما المراد بـ "إعراب القرآن" في هذا السياق؟
مصطلح "إعراب القرآن" في سياق البداءة بضبط القراءة يختلف عن المعنى الاصطلاحي المتأخر الذي نعرفه اليوم (معرفة المبتدأ من الخبر والفاعل من المفعول). إن المعنى الأول والمقصود هنا هو نطق القرآن نطقًا صحيحًا بلغة عربية سليمة. والإعراب المقصود هنا يشمل أمرين: أمر واجب، وأمر مندوب.
1. الإعراب الواجب (اللحن الجلي): إخراج الحروف والحركات
الأمر الواجب في الإعراب هو ما يُعبر عنه الفقهاء بـ "اللحن الجلي"، وهو أمران أساسيان لا يصح تركهما لمن أراد حفظ القران الكريم:
أ. إخراج مخارج الحروف كما يخرجها العرب: يجب أن تنطق الحروف نطقًا صحيحًا، كما ينطقها العرب الفصحاء. وهذا يتطلب تدريبًا وإتقانًا لضمان عدم تغيير المعنى أو تبديل الحرف بحرف آخر. فبعض الناس قد ينطق العين همزة أو ألفًا، بينما الواجب هو نطق العين "عينًا". وكذلك يجب نطق:
- الغين "غينًا".
- الجيم "جيمًا".
- الثاء "ثاءً".
- الزاي "زايا".
- الظاء "ظاءً".
- الضاد "ضادًا".
وهذا يتضمن أيضًا الإتيان بصفات الحرف اللازمة، مثل "الاستطالة العرضية" في اللسان وغيره.
ب. نطق الحركات (حروف مصغرة): يشمل الأمر الواجب أيضًا نطق الحركات نطقًا صحيحًا. والحركات، في حقيقتها، هي حروف لكنها أصغر حجمًا. ونطق الحركات يشمل:
- الحركات الصرفية: وهي التي تكون داخل الكلمة.
- الحركات الإعرابية: وهي ما يُعرب من الكلم، حيث يجب أن يُنصب المنصوب، ويُجر (أو يُخفض) المخفوض، ويُرفع المرفوع.
وهذا هو معنى قولنا "إعراب القرآن": أي نطقه بلغة عربية صحيحة في الحروف وفي الحركات.
2. التطور التاريخي للاهتمام بالإعراب
من المثير للاهتمام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأصحابه "أعربوا القرآن". والسبب في ذلك أن القرآن نزل عليه وكان يقرئه على أصحابه، وكان الصحابة فصحاء وأصحاب بيان.
لكن الحاجة إلى التأكيد على الإعراب (بمعنى الضبط الصحيح) بدأت تظهر بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحديداً عندما دخل الأعاجم (غير العرب) إلى المدينة، فبدأت تظهر اللكنة (الأخطاء في النطق).
لهذا السبب، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقوم على المنبر ويقول: "أيها المسلمون أعربوا القرآن، أعربوا القرآن، أعربوا القرآن". كما عُرفت قصص في عهد عمر رضي الله عنه تبين أهمية ضبط النطق.
إذًا، فإن أول ما يجب أن يُعنى به طالب حفظ القران الكريم هو معرفة إعرابه وضبطه وإتقان قراءته. ثم بعد هذا الإتقان، ينتقل إلى الانشغال بالحفظ.
خريطة طريق حفظ القران الكريم: التسلسل المنهجي للحفظ
بعد أن يتم إتقان القراءة وضبطها، ينتقل المرء إلى المرحلة الثانية، وهي حفظ هذا القرآن العظيم. وقد وضع أهل العلم تسلسلاً منطقيًا في البداءة بالحفظ، يقدم ما هو أوجب أو أكثر قراءةً:
1. البداءة بسورة الفاتحة
أولى ما يُحفظ هو سورة الفاتحة. والسبب في هذا التقديم واضح، وهو أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة. لا يجوز أن يتقدم طالب الحفظ خطوة قبل أن يتقن حفظ أم الكتاب، فهي أساس العبادة اليومية.
2. تقديم "المفصّل" في الحفظ
بعد الانتهاء من إتقان سورة الفاتحة، فإن أولى ما يُحفظ بعد ذلك هو المفصّل. والمفصّل هو جزء القرآن الذي يبدأ من سورة "ق" أو "الحجرات" (حسب اختلاف الأقوال، لكنه يشمل قصار السور في نهاية المصحف).
وقد أكد أهل العلم على المفصّل بالخصوص في حفظه، ويُقسم المفصّل إلى ثلاثة أقسام يجب حفظها بالتدرج:
- قصاره: السور القصيرة (مثل سورة الناس حتى الضحى تقريباً).
- أواسطه: السور المتوسطة في الطول (قبل قصار السور).
- طواله: السور الطويلة في المفصّل (مثل سورة ق، الحجرات، إلخ).
لماذا قُدّم حفظ المفصّل على غيره؟
قُدّم حفظ المفصّل لأنه هو الذي يُقرأ في الصلاة. الغرض من كثرة قراءة سوره جعله مُقدَّمًا على غيره في الحفظ.
لذلك، جاء في الترمذي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرسل للأمصار يأمر أمرائهم (الذين كانوا يصلون بالناس في ذلك الزمان) بكيفية القراءة في الصلوات الخمس. وكانت تعليماته مبنية على تقسيم المفصّل:
- القراءة في صلاة الفجر بـ طوال المفصّل.
- القراءة في صلاة الظهر والعصر والعشاء بـ أواسطه.
- القراءة في صلاة المغرب بـ قصاره.
هذا التخصيص للمفصّل جعله الأولوية الثانية في برنامج حفظ القران الكريم بعد الفاتحة.
أهمية حفظ المفصّل للإمام والمأموم
إن حفظ المفصّل ضروري لكلا الطرفين في الصلاة:
- للإمام: يجب أن يكون حافظًا لما يقرأ، خاصةً في الصلوات الجهرية التي يكثر فيها قراءة المفصّل.
- للمأموم: يُحتمل أن يُخطئ الإمام في القراءة، وفي هذه الحالة، يجوز للمأموم أن "يفتح عليه" (يصحح له).
- قاعدة فقهية: الفتح على الإمام جائز في غير الفاتحة.
- استثناء: الفتح على الإمام في سورة الفاتحة واجب، وقد نص على ذلك في كتاب "المنتهى" وغيره.
إذًا، فإن البداية المنهجية لـ حفظ القران الكريم تبدأ بضبط القراءة، ثم الفاتحة، ثم المفصّل بترتيبه (قِصار، أواسط، طوال).
حفظ القران الكريم ودرجة الفقيه: الالتزام بأيات الأحكام
بعد الانتهاء من التدرج الأولي، يأتي التخصص. فمن عني بالفقه وأراد أن يكون مجتهدًا أو فقيهًا، فإن حفظ القرآن الكريم له متطلبات إضافية ومشددة.
ذكر بعض الأصوليين رحمهم الله أن المرء يلزمه أن يُعنى بـ آيات الأحكام تحديدًا، ويقولون: "يجب عليه أن يكون حافظًا لآيات الأحكام".
خلاف الفقهاء حول القدر الواجب حفظه
اختلف العلماء في تحديد العدد الواجب حفظه من آيات الأحكام لمن أراد الاجتهاد في الفقه:
- قيل إن عدد آيات الأحكام هو 400 آية.
- قيل إن العدد هو 500 آية.
- قيل إن العدد هو 600 آية.
- وقيل غير ذلك.
اختيار شيخ الإسلام تقي الدين: لا اجتهاد بلا حفظ كامل
أما الشيخ تقي الدين عليه رحمة الله، فقد كان له رأيٌ أكثر صرامةً وتشدداً في هذه المسألة، حيث قال في "المسودة" إن الأقوال السابقة (بتحديد عدد معين من آيات الأحكام) "غير صحيحة".
واختيار الشيخ تقي الدين هو أنه: لا يمكن للمرء أن يكون فقيهًا ولا مجتهدًا إلا أن يحفظ القرآن كله من أوله إلى آخره. وإلا، فـ "ليس بفقيه".
إن هذا الرأي يربط بين الفقه الكامل وتمام حفظ القران الكريم. فالفقه يتطلب التدرج في معرفة آيات الأحكام حفظًا ومعرفةً.
ويُذكر كشاهد على هذا الأمر، أننا "سمعنا في عصرنا أن كثيرًا من الناس يتصدر، فإذا قام في الصلاة ما أحسن القراءة، فكيف يكون فقيهًا إذًا؟". هذا الاستدلال يؤكد أن الإتقان الكلي للقراءة والحفظ، كشرط للفقاهة، لا يزال متطلبًا أساسيًا.
المقصود هو أن المرء يجب عليه التدرج في العلم والفقه، ويرى بعض العلماء أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بحفظ آيات الأحكام، بينما يرى الشيخ تقي الدين وجوب حفظ القرآن كله.
نصائح وخطوات عملية لتطبيق منهج التدرج في حفظ القران الكريم
لتحويل هذه الأولويات العلمية إلى برنامج عملي ملموس، يمكن لطالب حفظ القران الكريم اتباع الخطوات التالية التي تضمن له التأسيس الصحيح:
1. إعطاء الأولوية القصوى لـ "تجويد القرآن" (ضبط الإعراب) (H3)
قبل فتح صفحة الحفظ الجديدة، يجب تخصيص فترة زمنية لـ تجويد القرآن وتصحيح التلاوة.
- البحث عن معلم: لا يمكن ضبط الإعراب (إخراج مخارج الحروف وحركاتها) بشكل سليم دون التلقي على شيخ متقن.
- التدريب على المخارج: خصص وقتًا لتمارين النطق، للتأكد من أنك تنطق العين عينًا لا همزًا، والضاد ضادًا مستطيلة.
- تطبيق الحركات: تعود على نطق القرآن بلسان عربي صحيح، حيث تُرفع الكلمات المرفوعة وتُنصب المنصوبة، حتى لو لم تكن عالماً بالنحو الاصطلاحي. تذكر وصية أبي بكر الصديق: "أعربوا القرآن".
إن هذه المرحلة، وهي الإتقان التام للقراءة، أولى وأجدر بأن يبدأ بها.
2. التدرج العملي في الانتقال للحفظ
يجب أن يكون الحفظ بعد ذلك مباشرة:
- البدء بالفاتحة: إتقان سورة الفاتحة كشرط في الصلاة. يجب حفظها غيباً بإتقان تام لمخارجها وحركاتها.
- التركيز على المفصّل: الانتقال إلى المفصّل (قصار السور أولاً).
- ابدأ بالسور التي تقرأها في صلاة المغرب (قصار المفصّل)، لربط الحفظ بالتطبيق العملي وكثرة القراءة.
- ثم انتقل إلى أواسط المفصّل (لسرعة التطبيق في صلاتي الظهر والعصر والعشاء).
- أخيراً، طوال المفصّل (التي تُقرأ في الفجر).
3. برنامج الحفظ المخصص لطلاب الفقه
إذا كان هدفك النهائي هو أن تصبح مجتهدًا أو فقيهًا، فإنه يلزمك التدرج فيه بمعرفة وحفظ آيات الأحكام.
- التخطيط لحفظ الآيات الجامعة للأحكام: خصص جزءًا من مراجعتك لحفظ الآيات التي يكثر استدلال الفقهاء بها.
- الالتزام بعهد الشيخ تقي الدين: إذا أخذت باختيار الشيخ تقي الدين، فالخطة هي الاستمرار في حفظ القران الكريم كاملاً من أوله إلى آخره، مع التركيز على فهم آيات الأحكام في سياقها الفقهي. هذا هو شرطه ليُصبح المرء مجتهدًا أو فقيهًا بحق.
4. الإقبال النفسي والقدرة على الحفظ
يجب أن يكون الحفظ مصحوبًا بـ إقبال النفس على العلم والقرآن. فربما حفظ المرء شيئًا يسيرًا ولكنه لم يستطع أن يقوي لسانه بالباقي إلا مع هذا الإقبال والاستعداد النفسي.
إن حفظ القران الكريم يتطلب قدرة على الحفظ، وعدم استعجال النتائج. إذا شعر المرء أن حفظه صعب عليه، فالعودة إلى ضبط القراءة وتصحيح اللسان هي أولى الخطوات لتمهيد الطريق.
الأسئلة الشائعة حول منهج حفظ القران الكريم
س1: ما هو الترتيب الصحيح الذي نصح به العلماء للبدء في حفظ القران الكريم؟
ج: الترتيب الذي ذكر به أهل العلم في هذا الشأن هو: أولاً، ضبط القراءة وإتقانها والاهتمام بإعراب القرآن (بمعنى النطق الصحيح للحروف والحركات). وثانياً، الشروع في الحفظ الفعلي، بالبداءة بسورة الفاتحة، ثم المفصّل (قصاره، فأواسطه، فطواله). هذا التدرج يضمن تجنب الحفظ الخاطئ الذي يصعب تقويمه لاحقًا.
س2: ما الذي يقصده العلماء بـ "إعراب القرآن" الذي يجب البداءة به قبل الحفظ؟
ج: "إعراب القرآن" في هذا السياق لا يعني بالضرورة معرفة المبتدأ والخبر (النحو الاصطلاحي). بل هو مصطلح يدل على نطق القرآن نطقًا صحيحًا بلغة عربية فصيحة. ويشمل هذا الأمر الواجب المسمى بـ "اللحن الجلي"، وهو إخراج مخارج الحروف كما يخرجها العرب (مثل نطق العين عيناً لا همزة)، والنطق الصحيح لجميع الحركات الإعرابية والصرفية.
س3: هل يشترط على طالب الفقه أو المجتهد حفظ القران كله؟
ج: اختلف الأصوليون في ذلك. فمنهم من رأى وجوب حفظ آيات الأحكام فقط (واختلفوا في عددها بين 400 إلى 600 آية). بينما اختار الشيخ تقي الدين أن هذا غير صحيح، وأن المرء لا يمكن أن يكون فقيهًا ولا مجتهدًا إلا أن يحفظ القرآن كله من أوله إلى آخره، وإلا فليس بفقيه.
س4: لماذا يُقدم حفظ سور المفصّل على باقي سور القرآن؟
ج: يُقدم حفظ سور المفصّل (قصاره، أواسطه، وطواله) لأنها هي التي يُقرأ بها في الصلاة على الأغلب. وبما أن الحكمة من ذلك هي كثرة قراءة هذه السور، فقد أكد عليها أهل العلم في الحفظ. وهذا مهم سواء كان المرء إمامًا (فيجب أن يكون حافظًا) أو مأمومًا (فيجوز له أن يفتح على الإمام إذا أخطأ، باستثناء الفاتحة حيث يكون الفتح واجبًا).
ثمرة التدرج في حفظ القران الكريم
لقد أوضح أهل العلم مسارًا نيرًا لتحقيق غاية حفظ القران الكريم، أساسه التدرج والضبط والإتقان. فبدءًا من إتقان النطق ومخارج الحروف، مروراً بترتيب الحفظ من الفاتحة إلى المفصّل، وصولاً إلى المتطلبات الخاصة لمن يسعى للفقه والاجتهاد؛ تتضح خارطة طريق متكاملة.
إن الإقبال على القرآن بالمنهجية الصحيحة يضمن الثبات والرسوخ، ويجنب الحافظ الوقوع في الحفظ الخاطئ الذي يصعب تقويمه. وكما يشدد الشيخ تقي الدين على أن الفقيه يجب أن يكون حافظاً لكامل القرآن ليتم له الاجتهاد، فإننا جميعاً مطالبون بالإقبال على كتاب الله بلسان عربي مبين، سليم من اللكنة والخطأ.
نتمنى أن تكون هذه المقالة قد وضحت لكم أهمية التدرج في الحفظ والأولويات المنهجية الصحيحة. شاركونا في التعليقات: ما هي التحديات التي تواجهونها في ضبط القراءة قبل الشروع في حفظ القران الكريم؟ وهل ستغيرون ترتيب حفظكم بناءً على أولويات الفاتحة والمفصّل؟
